By Dr. Ali Mabrouk | للدكتور علي مبروك *
The following is an excerpt from the Introduction to Ali Mabrouk, Nusūs ḥawl al-qur’ān: fī al-sa’y warā’ al-qur’ān al-ḥayy, (Texts about the Qur’an: In Search of the Living Qur’an; 2014). In it, Dr. Mabrouk discusses the clash between mobilizing the Qur’an for political purposes (min ajl al-sulṭān), and a humanistic reading of the text (min ajl al-insān). He finds the former more widespread due to the work of classical Islamic jurists, and especially in the wake of the recent Arab revolutions, and proposes the latter as an alternative. He asserts that not only does this humanistic approach better preserve the rights of people, but it also gives us a better understanding of both the qur’anic text and God. (E. El-Badawi)
من أجل الإنسان
(نبذة من كتاب نصوص حول القرآن في السعي وراء القرآن الحي)
تتأتى ضرورة قولٍ جدَّيٍ في القرآن الآن، من حقيقة أن العالم الواقعي لم يكن، في الأغلب، هو ساحة المعركة التي اندلعت، في الإسلام، حول ما إذا كان الإنسان قادراً وفاعلاً أو أنه محض كيانٍ عاجزٍ، لا قدرة له ولا تأثير. بل إن هذه المعركة قد اتخذت- وللغرابة- ساحاتها الرئيسة على امتداد فضاءات “الميتافيزيقي” والمفارق؛ وأعني من الله والقرآن بالذات. فالذين تصارعوا حول صفات الله، مثلاً؛ وكان منهم من أثبتها “قديمة وزائدة على الذات” في مقابل من نفى عنها أن تكون هكذا، وأثبتها، فقط، بوصفها “اعتبارات في النظر إلى الذات”، كانوا- في الحقيقة- يتخذون من الصفات ساحة يحسمون عليها معركتهم حول الإنسان بالأساس. ويترتب ذلك على حقيقة أن القول في الله بأن صفاته “قديمة وزائدة على ذاته “قد اقترن- وكان ذلك لازماً- بالقول في الإنسان “أنه لا تأثير لقدرته في مقدوره (أو فعله) أصلاً، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى”[1]. ويرتبط ذلك بأن قول هؤلاء بالقيام الأولاني القديم للصفة بالذات[2]، لابد أن يحيل إلى الدور التابع للوعي في مسألة، أو فعل، الوصف؛ وعلى النحو الذي ينتهي إلى تثبيت الحضور التابع أو الخاضع للإنسان، على العموم. ولعل هذا المعنى يتأكد حين يدرك المرء أن من تصوروا الصفات- في المقابل- على أنها اعتباراتٍ في النظر إلى الذات، قد عملوا على تثبيت الحضور الفاعل للإنسان؛ بسبب ما انتهوا إليه من “إن الخلقَ هم الذين يجعلون لله الأسماء والصفات”[3]؛ ويعني بما هي اعتباراتهم في النظر إلى جلال ذاته.
وإذا كان الله قد تبدى، هكذا، كساحة للتصارع حول الإنسان، فإنه لن يكون غريباً أن يستحيل القرآن، بدوره، إلى ساحة لنفس هذا الصراع أيضاً؛ وأعني من حيث ما ينطوي عليه من إغراء التعالي به إلى عالم الميتافيزيقي والمفارق. وهكذا فإن من تصوروا القرآن “صفة قديمة لله”، كانوا مشغولين بتثبيت وضعٍ بعينه للإنسان، يكون فيه مُستلباً وعاجزاً، وذلك بمثل ما إن من سيتصورونه- في المقابل- “خطاباً يخص الإنسان” كانوا مشغولين بتثبيت تصورٍ للإنسان يكون فيه قادراً على الفعل في العالم.
وإذ يبدو، هكذا، أن الخطاب النافي للإنسان يعلق نفسه على قولٍ في الصفات والقرآن، لا يرى إليهما إلا في تعلقهما بالله فحسب، بل ويلح على طمس حقيقة دخول الإنسان والعالم في بنائهما؛ فإنه يلزم التأكيد على أن كلاً من الله والقرآن إنما يحضران، وفقط، كمحض قناعين لمن يُراد إخفاءه وراءهما (وهو السلطان)؛ وبصرف النظر عما تؤدي إليه هذه الممارسة من التشويش على جلال الله وفاعلية القرآن. وبالطبع فإن ذلك يعني أن الأمر يتعلق، في العمق، بمواجهة بين “الإنسان” و”السلطان”؛ وفقط فإن “السلطان”- أو بالأحرى فقهاؤه- يستدعون “الله”، ومعه القرآن، ليكسبون به معركتهم، على نحو حاسم. فالسلطان حاضرٌ حضوراً جوهرياً في قلب “القول في الصفات”، وإلى حد استحالته إلى “أصلٍ” يجري القياس عليه في تأويل بعض الصفات التي يصف الله بها نفسه في نص التنزيل؛ وكان ذلك إلى الحد الذي مضى معه الغزالي إلى أن “الحضرة الإلهية لا تُفهم إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية”[4]. وبالمثل فإنه حاضرٌ في ما يمكن القول أنه فعل التعالي بالقرآن من “خطابٍ يخص الإنسان” إلى كونه “صفة قديمة من صفات الله”؛ حيث إن ما سيقوم به السلطان، من خلال فقهائه، من وضع نفسه موازياً أو مكمِّلاً للقرآن، (وذلك من خلال المأثور المعروف “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”)، كان لابد أن ينعكس عليه تعالياً بسلطته إلى الوضع الذي تكون فيه مطلقة، وخارج أي إمكانية للسيطرة عليها. وإذن فإن كلاً من الله والقرآن إنما يجري استدعاءهما للدخول في المواجهة مع الإنسان، من أجل مجرد التعالي بالسلطان. وإذا كانت هذه المواجهة قد انتهت إلى الانتقاص من جلال الله[5]، ومن فاعلية وحيوية القرآن، فإن السعي إلى تحريرهما من قبضة السلطان- الذي يمسك بهما بوساطة خدمه من الفقهاء- لن يكون فقط من أجل الإنسان.
وبالطبع، فإنه لا يمكن تصور أن تكون هذه الممارسة- التي يمكن اختزالها في “الأطلقة”- هي محض تاريخٍ فات وانقضى، وبات مدفوناً في تراث القدماء. إذ الحق أنها كانت هناك؛ حاضرةً وفاعلةً طوال الوقت. وفقط، فإنها إذا كانت قد تخفَّت على مدى عقودٍ ماضية (تحت برقع الحداثة الذي ظل يشفُّ- رغم ثقله- عن كل ما يرقد تحته من البنيات البالية العتيقة)، فإنها- ومع احتلال تيارات الإسلام السياسي لصدارة المشهد في دول الربيع العربي- قد عادت للاشتغال الصريح، من دون أي تخفٍّ أو مواربة[6]. وإذ عادت للاشتغال، فإنها راحت تضع أمام الأعين حقيقة “أن ما يتهدد الإنسان، إنما يتهدد- بالمثل- الله والقرآن”. وللآن، فإن تعرية هذه الحقيقة يبدو وكأنه الإنجاز الأوحد لثورات العرب الأخيرة؛ وهو من نوع الإنجاز الثمين، على أي حال. إذ هو القادر- لا سواه- على البلوغ بخطاب “الأطلقة” السلطوي- الذي يجعل الله والقرآن محض قناعين يشتغل بهما- إلى نهايته؛ وبما يفتح الباب أمام إنضاج شروط نمطٍ من التطور مغايرٍ لذلك النمط المشوَّه الذي عرفته مصر، والعالم العربي. ولعل ذلك يحيل إلى أن خطاب “الأطلقة”- وليس الله أو القرآن أو الدين على العموم- هو ما يتهدد مسار التحول الديمقراطي في العالم العربي؛ وبما يعنيه ذلك من خطورة اختزال التحول الديمقراطي في مجرد العملية السياسية فحسب. بل إنه يبدو أن اكتمال هذا المسار مشروطٌ ببناء خطابٍ للأنسنة؛ يتحرر فيه الله والقرآن من التصورات التي تجعلهما يحضران كمجرد قناعين لسلطة مستبدة. إذ الحق أن متانة الارتباط بين الله والقرآن والإنسان تبلغ حداً من الجوهرية يكون معه تحرير التصور الخاص بالواحد منها شرطاً في تحرير التصور المتعلق بالحدين الأخرين. ومن هنا إمكان اعتبار السعي وراء القرآن الحي- في هذا الكتاب- بمثابة خطوة على طريق استكمال الشروط التي تجعل من الميسور إنجاز التحول الديمقراطي المأمول.
وإذن فالأمر- في الختام- لا يتعلق بأي سعيٍ إلى طرد الدين من واقع الناس- بحسب ما قد يتقوَّل البعض عن عمدٍ وسوء قصد- بقدر ما يتعلق بالسعي إلى تحرير الدين، نفسه، من قبضة خطابٍ لا يكتفي بالحط من شأن “الإنسان”، بل ويضطر- في سعيه إلى تثبيت هذا الحط- إلى التنقيص من جلال الله، وضرب أسوار الجمود والصمت حول القرآن. ومن هنا إمكان القول بأن ما يكون من أجل الإنسان، إنما هو- أيضاً- من أجل الله والقرآن، والعكس.
[1] – الرازي: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد (مكتبة الكليات الأزهرية) القاهرة، دون تاريخ، ص 194.
[2] – فالصفة- حسب هؤلاء- هي “الشيئ الذي يوجد بالموصوف أو يكون له، ويكسبه الوصف الذي هو النعت…وهذا الوصف (هو) غير الصفة القائمة بالله تعالى”. أنظر: الباقلاني: التمهيد في الرد على الملحدة والمعطِلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، تحقيق: يوسف مكارثي (المكتبة الشرقية) بيروت 1957، ص 213- 214.
[3] – المصدر السابق، ص 217.
[4] – الغزالي: إلجام العوام عن علم الكلام، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي (دار الكتاب العربي) بيروت، ط 1، 1985، ص 52، وراجع أيضاً: الرازي: أساس التقديس في علم الكلام (شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر) القاهرة، 1935، ص 82- 131.
[5] – فقد اضطر هذا الخطاب، من أجل تثبيت وضع “العاجز” غير الفاعل للإنسان، إلى أن ينسب إلى الله أفعالاً يستحيل إلا أن تكون من فعل الإنسان؛ بسبب ما تنطوي عليه من المثالب والنواقص. وبالرغم من أنها تكون- والحال كذلك- من قبيل الأفعال التي يأنف حتى الإنسان من نسبتها إلى نفسه؛ من مثل الاحتكار وغلاء الأسعار والغصب وغيرها، فإن الخطاب قد نسبها إلى الله لكي يجرد الإنسان من أي قدرة على الفعل، غير عابئٍ بما تؤدي إليه هذه النسبة إلى الله من التنقيص من جلاله سبحانه. وبالطبع فإن ذلك مما يؤكد على حقيقة أن كليَّة القدرة الإلهية لم تكن هي القصد من وراء نفي الحضور الفاعل للإنسان، بقدر ما هو الحرص على التعالي بالسلطان؛ على النحو الذي تنتفي معه مسؤوليته عن أفعال بطشه (كالاحتكار والسلب والغصب والقتل وغيرها)، وذلك عبر نسبتها إلى الله باعتباره الفاعل الأوحد. ومن هنا ما قاله أحدهم للحسن البصري عن ملوك بني أمية: “يا أبا سعيد: هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأكلون أموالهم، ويقولون: إنما أعمالنا تجري على قَدَرِ الله”؛ كاشفاً عن الحقيقة المتخفية وراء نسبة أفعال البشر إلى الله. أنظر: علي مبروك: النبوة؛ من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ (دار التنوير للطباعة والنشر)، بيروت، ط 1، 1993، ص 178- 180.
[6] – حين يصف أحدهم المتمردين على سلطة رئيسه المصري (الإسلاموي)، بأنهم يكررون فعل إبليس عندما تمرد وعصى أمر الله، فإنه ينسى أنه يرتفع برئيسه- والحال كذلك- إلى مقام “الله”. فإذ يجعل من المتمرد “إبليساً”، فإنه يجعل ممن يتمرد عليه هؤلاء الناس/الأبالسة “إلهاً”.
© International Qur’anic Studies Association, 2014. All rights reserved.